فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو حبان: في الوجه الثاني هو: تكلف، وعدول عن السهل البين، والمراد بالحفظ: حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره {تَقْدِيرُ العزيز العليم} أي: البليغ القدرة الكثير العلم.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} أي: فقل لهم يا محمد أنذرتكم خوّفتكم {صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} أي: عذابًا مثل عذابهم، والمراد بالصاعقة: العذاب المهلك من كلّ شيء.
قال المبرد: الصاعقة المرّة المهلكة لأيّ شيء كان.
قرأ الجمهور: {صاعقة} في الموضعين بالألف، وقرأ ابن الزبير، والنخعي، والسلمي، وابن محيصن {صعقة} في الموضعين، وقد تقدّم بيان معنى الصاعقة، والصعقة في البقرة، وقوله: {إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل} ظرف لأنذرتكم، أو لصاعقة، لأنها بمعنى العذاب، أي: أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل، أو حال من صاعقة عاد.
وهذا أولى من الوجهين الأولين، لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل، فلا يصحّ أن يكون ظرفًا له، وكذلك الصاعقة لا يصحّ أن يكون الوقت ظرفًا لها، وقوله: {مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} متعلق بجاءتهم، أي: جاءتهم من جميع جوانبهم.
وقيل: المعنى: جاءتهم الرسل المتقدّمون، والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم، فكأن الرسل قد جاءوهم، وخاطبوهم بقولهم: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي: بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية، ويجوز أن تكون التفسيرية، أو المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف.
ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل، فقال: {قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة} أي: لأرسلهم إلينا، ولم يرسل إلينا بشرًا من جنسنا، ثم صرّحوا بالكفر، ولم يتلعثموا، فقالوا: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} أي: كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا، وقد تقدّم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} قال: لا يشهدون أن لا إله إلاّ الله، وفي قوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال: غير منقوص.
وأخرج ابن جرير، والنحاس في ناسخه، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقال: «خلق الله الأرض في يوم الأحد، والاثنين، وخلق الجبال، وما فيهنّ من منافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والحجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب، فهذه أربعة أيام، فقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ}، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم، والشمس، والقمر، والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق من أوّل ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى فيها من كلّ شيء مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم، وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة» قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: «ثم استوى على العرش» قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، فنزل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [ق: 38، 39].
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} قال: شق الأنهار، وغرس الأشجار، ووضع الجبال، وأجرى البحار، وجعل في هذه ما ليس في هذه، وفي هذه ما ليس في هذه.
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضًا قال: إن الله تعالى خلق يومًا، فسماه الأحد، ثم خلق ثانيًا، فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثًا، فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعًا، فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسًا، فسماه الخميس، وذكر نحو ما تقدّم.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام، وذكر نحو ما تقدّم» وأخرج ابن جرير، عن أبي بكر نحو ما تقدّم عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} قال: قال للسماء: أخرجي شمسك، وقمرك، ونجومك، وللأرض شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {ائتيا} قال: أعطيا، وفي قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا} قال: أعطينا. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}.
كتاب خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب، والكتاب، فعال بمعنى مفعول، أي مكتوب.
وإنما قيل له كتاب، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21- 22].
ومكتوب أيضًا في صحف عند الملائكة كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11- 16].
وقال تعالى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن: {رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 23].
وقوله تعالى: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}.
التفصيل ضد الإجمال، أي فصل الله آيات هذا القرآن، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق، من أمور دينهم ودنياهم.
والمسوغ لحذف الفاعل في قوله تعالى: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن، لا يكون إلا من الله وحده.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب، جاء موضحًا في آيات أخر، مبينًا فيها أن الله فصله على علم منه وأن الذي فصله حكيم خبير، وأنه فصله ليهدي به الناس ويرحمهم، وأن تفصيله شامل لكل شيء، وأنه لا شك أنه منزل من الله كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [يونس: 37] وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}.
قوله: قرآنًا عربيًا قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة الزمر، في الكلام على قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، أي فصلت آياته، في حال كونه قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون.
وإنما خصهم بذلك، لأنهم هم المنتفعون بتفصيله، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة يونس في قوله تعالى: {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، وفي سورة الأنعام في قوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 97- 98] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة} [فاطر: 18] وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم، في آية فاطر هذه، وفي قوله تعالى في يس {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب} [يس: 11] وقوله في النازعات: {إِنَّمَا أنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وقوله في الأنعام: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] الآية. مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وإنما خص المذكورين بالإنذار، لأنهم هم المنتفعون به، لأن من لم ينتفع بالإنذار، ومن لم ينذر أصلًا سواء في عدم الانتفاع، كما قال الله تعالى: {وَسَوَاءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 10].
وقوله تعالى، في هذه الآية الكريمة {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} حال بعد حال. وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية، في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين} [الكهف: 2] الآية. وبسطنا الكلام عليه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7] وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنعام: 116].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع.
وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} [النمل: 80] الآية.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار صرحوا للنبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لا يستجيبوا له ولا يؤمنون به، ولا يقبلون منه ما جاءهم به فقالوا له قلوبنا التي نعقل بها، ونفهم في أكنة، أي أغطية.
والأكنة، جمع كنان، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه.
ويعنون أن تلك الأغطية، مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرًا أي: ثقلًا وهو الصمم. وأن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًان ومما يقول، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26].
وأن من بينهم وبينه حجابًا، مانعًا لهم من الاتصال والاتفاق، لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه صلى الله عليه وسلم من الحق.
والله جل وعلا، ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم، مع أنه تعالى صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وجعل بينهم وبين رسوله حجابًا، عند قراءته القرآن، قال تعالى في سورة بني إسرائيل: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45- 46]. وقال تعالى في الأنعام: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} [الأنعام: 25] وقال تعالى في الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].
وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي، ووجه كونه مشكلًا ظاهر، لأنه تعالى ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية قوي، ووجه كونه مشكلًا ظاهر، لأنه تعالى ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من فصلت، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلًا، وأنه تعالى هو الذي جعله فيهم.
فيقال: فكيف يذمون على قول شيء، هو حق في نفس الأمر.
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال، هو ما ذكرناه مرارًا، من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة، وطبع عليها وختم عليهان وجعل الوقر في آذانهم، ونحو ذلك من الموانع من الهدى، بسبب أنهم بادروا إلى الكفر، وتكذيب الرسل طائعين مختارين، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم، طمس البصيرة، والعمى عن الهدى، جزاء وفاقًا.
فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم، مجازاة لكفرهم الأول.
ومن جزاء السيئة، تمادي صاحبها في الضلال، ولله الحكمة البالغة في ذلك.
والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].
فقول اليهود في هذه الآية {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} كقول كفار مكة: {قُلُوبُنَا} {في أَكِنَّةٍ} لأن الغلف، جمع أغلف وهو الذي عليه غلاف، والأكنة جمع كنان، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر.
وقد رد الله على اليهود دعواهم ببل التي هي للإضراب الإبطالي، في قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].
فالباء في قوله: بكفرهم سببية، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد.
وكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والفاء في قوله: فطبع سببة أي ثم كفروا، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر.
وقد قدمنا مرارًا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي.
وكذلك الفاء في قوله: {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] فهي سببية أيضًان أي فطبع على قلوبهم، فهم بسبب ذلك الطبع لا يفقهون أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئًا.
وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يؤول معناهما إلى شيء واحد، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم. لأنه قال في الطبع {فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]. وقال في الأكنة: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] أي كراهة أن يفقهوه، أو لأجل ألا يفقهوه، كما قدمنا إيضاحه.